نبين من بين ألوف حقائق هذه الآية حقيقة واحدة لتكون مثالاً لبيان الإفحام. وذلك أن الاستفهام الإنكاري التعجبي المكرر خمس عشر مرة في هذه الآيات يفحم جميع طبقات أهل الضلالة والإلحاد، ويسدّ منافذ الشبهات جميعها بحيث لا يبقى فيها ثقباً شيطانياً إلا ويسدّه. ولا حجاباً يتسترون ورائه إلا ويمزقه. فيبطل بكل فقرة معتقداً من معتقدات طوائف الكفر، يبطله إما بتعبير وجيز أو بإحالة بطلانه على البداهة والسكوت حيث كان بطلانه ظاهراً، أو بالإشارة إليه حيث بين في مواضع أخرى.
مثلاً، تشير الفقرة الأولى إلى آية: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِى لَهُ﴾ (يس: 69) وترمز الفقرة الخامسة عشر إلى قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ اِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا﴾ (الأنبياء: 22) وقس على هاتين سائر الفقر. ويقول القرآن: بلغ الأحكام الإلهية! إنك لست بكاهن، حيث إن أقوال الكاهن ملفقة لا تعدو الظن والوهم. وأما أقوالك فهو عين الحق واليقين، كما أنك لست بمجنون، فإن كل أحد حتى عدوك يشهد بكمال عقلك.
﴿اَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ أم يقولون لك كما يقول عوام الكفار بدون محاكمة: إنه شاعر. وينتظرون هلاكك عجباً؟. فقل: تربصوا فأنا أيضاً متربص منكم، ولا ريب أن الحقائق العظيمة منـزهة من خيالات الشعر وغنية من خزعبلاته.
﴿اَمْ تَأُمُرُهُمْ اَحْلاَمُهُمْ بِهَذَا﴾ أم يقولون مثل ما يقول الفلاسفة الذين يعتمدون على عقولهم السخيفة: إن عقولنا تكفينا. مع أن العقل يأمر باتباعك، لأن كل ما تقول يوافق العقل ولا يخالفه، ولا يمكن للعقل وحده أن يسايره.
﴿اَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ أم ما يحملهم على الإنكار هو عدم الاعتراف والتسليم للحق، ورده أمثال الطغاة الظالمين، مع أن عاقبة رؤساء الطغاة الظالمين من أمثال الفراعنة والنماردة معلومة للجميع.