كذلك كانت الفصاحة والبلاغة في عهد محمد عليه الصلاة والسلام أكثر رواجاً من كل ما عداه، فكانت المعجزة في كل عهد من الجنس الرائج فيه.
فتحدى بلغاء العرب أن يأتوا ولو بأقصر سورة من مثل القرآن قائلا: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ (البقرة: 23) ويقول أيضاً إن لم تؤمنوا فستدخلون جهنم داخرين ضارباً أعصاب رجولتهم محطماً كبريائهم وعتوهم مستخفاً بعقولهم المتكبرة، يصدر عليهم الحكم بالإعدام الدنيوي أولا، ثم يتبعه بالحكم عليهم بالإعدام الأبدي في جهنم، يقول لهم القرآن: ناظروني وإلا فستكونوا أنتم وأموالكم ضحية المصارعة الدامية.. فلو كانت المناظرة من مقدروات هؤلاء لما اختاروا سبيل المهالك والمشقات -سبيل المحاربة- مع امكان الخروج من المأزق بسهولة، وهو إبطال دعوى القرآن بإتيان سطر أو سطرين من مثله. نعم، لو أمكنت المناظرة لما ترك هؤلاء الأذكياء الذين تصرفوا زماناً في امور العالم بسياستهم الرشيدة، هذا السبيل القصير والبعيد من كل صعوبة، واختاروا المهالك والمشقات، وسلكوا السبيل الذي يفقدون فيه كل شيء من أموالهم وأنفسهم.
فإنه لو أمكن لهؤلاء الأدباء المناظرة بشيء يسير من الحروف لترك القرآن دعوته، ورفض النداء للالتفاف حول ما يلقيهم من الخطاب الإلهي، ولنجوا حينذاك من الدمار المادي والمعنوي، فلما لم يمكنهم المناظرة بالحروف عمدوا إلى المقارعة بالسيوف.
وهناك لتقليد القرآن عاملان قويان: أحدهما حرص الأعداء على مناظرة القرآن، والآخر شغف الأصدقاء على مسايرته، وقد ألف تحت تأثير هذين العاملين ملايين الكتب العربية، لا يشبهه أي واحد منها، وكل من أجال نظره في صفحات القرآن وفي تلك الكتب -سواء كان عالماً أو جاهلاً- اعترف قطعاً بأن القرآن لا يشبهه ولا يماثله أي كتاب، فإما أن يكون القرآن أدنى الجميع، وهذا باطل باتفاق الأعداء والأصدقاء. وإما أن يكون فوقها وهو المطلوب.